خلال السنوات القليلة الماضية، تحولت الجدران في طرابلس فضاءً للتعبير عن تعب الناس ومحاولة تجميل الواقع وتحويل واجهات الأبنية والشوارع والساحات العامة إلى لوحات فنية تحاكي كبرى المدن. ولا يعتبر من قبيل المبالغة الإعلان عن نشأة “مدرسة طرابلس في فن الشوارع”، وتحديداً في مجال الغرافيتي والخط العربي. إذ تحتضن جدران هذه المدينة التاريخية جهود مجموعة من أصحاب المواهب.
مدينتي أجمل
في كل زاوية من زوايا طرابلس شاهد على موهبة الفنان محمد الأبرش (26 عاماً). ويروي الأبرش كيف بدأت مسيرته في أحياء التبانة، منذ كان في 11 من عمره، بالرسم من دون أي قضية. وكان يقتصر عمله على ترجمة مشاعر حب المراهقة أو التجارب الشخصية، إلا أن هذه الموهبة بدأت تنمو وصولاً إلى أحداث جبل محسن والتبانة واستخدام الفن لرفض الواقع والاقتتال الداخلي.
وبعد إنجاز الخطة الأمنية، تطلع الأبرش لخدمة قضيته التي يختصرها بالسعي لتكون “مدينتي أجمل”. لذلك، بدأ نشر لمسته الخاصة على الجدران وواجهات البنايات المتضررة في شارع سوريا، وكذلك أكثر من مئتي مدرسة. ووسع نطاق عمله إلى خارج المدينة نحو بيروت والجنوب. ولم يتأخر عن مواساة أهالي القاع إبان التفجيرات الإرهابية.
ولم يبخل الأبرش بالجهد لتجميل علب الهاتف وحاويات النفايات لتصبح بهيجة على صورة سبونج بوب والشخصيات الكرتونية. ومن آخر الأعمال التي أنجزها الأبرش، تحويل جدار سكة الشمال في جبل محسن إلى لوحة فنية مميزة تجتمع فيها أصالة الحرف العربي والفكر، مع حداثة التعبير عن التحرر.
ومن أجل إنجازه أعماله ومخططاته، كان الأبرش يجد نفسه مضطراً إلى بيع بعض مقتنياته الخاصة كالسيارة أو الدرّاجة النارية لتأمين التكاليف وعدم طلب المعونة. وتحول الأبرش مع الوقت إلى ماركة مسجلة واشتهر بتوقيعه وحركة فرشاته، وبات شخصية مشهورة في منطقة الشمال. وهو يستعد لاستكمال تحصيله العلمي بعد انقطاع أثناء أحداث طرابلس. ويتطلع إلى مساعدة مزيد من الشبان الموهوبين الذين يشاركونه في إنجاز جدارياته الضخمة.
وبات الأبرش يملك عدة متخصصة للعمل تمكنه من إنجاز أعماله المعقدة. وهو ينتقل إلى الورش ناقلاً معه ترسانته من أدوات الرش والطلاء والمولد الكهربائي وسيارات النقل ومعدات الإضاءة والموسيقى.
جمالية الخط العربي
مع حرف الواو بدأت مسيرة بلال الزين. فأثناء دراسة مادة التاريخ في الصف الثامن، اكتشف بلال عشقه الخط العربي. ويتذكر كيف قامت الآنسة نادين عواد بتشجيعه وقدمت له كتباً في هذا المجال. ولا ينسى كيف كان يجلب خراطيش الستيلو ويفتحها ليغمس فيها ريش التخطيط.
بدأ الزين مسيرته في مرحلة ما قبل التصميم على الكمبيوتر من خلال عمله لدى أحد أشهر خطاطي مدينة طرابلس. وكان على تماس مع أهم المهتمين بفن الخط في المدينة. ومع الوقت، تمكن بلال من تحطيم حذره مع الشارع، وشارك في رسم واحدة من أوائل الجداريات قرب مكتبة البلدية القديمة.
ويحدد الزين مهمته بتوصيل رسالة إلى الناس ونشر روح الإيجابية مع التركيز على الحِكم وبيوت الشعر. وهذا ما ترجم في أعماله من خلال جدارية إيليا أبي ماضي: “قال السماء كئيبة وتجهم… قلت ابتسم يكفي التجهم في السما”. وكذلك في جدارية أخرى اقتبس فيها من إحدى أغنيات فيروز عبارة “بعيون نور وحلي”. وحقق الزين نجاحات عدة من خلال مشاركته مع فريق فنون متقاطعة في أيام الشارقة الثقافية ورسم جدارية بطول 15 متراً.
فلسفة الشوارع
في سن الثامنة، بدأ خالد حموي تحويل الشخصيات في كتاب التاريخ إلى لوحات فنية. فراح يجعل من رجل يحمل السيف عازفاً لموسيقى على الغيتار. يقول حموي إن رسوماته كانت عادية، إلا أنه كان يستغل كل دقيقة ليرسم فيها. ولا ينسى ذاك اليوم الذي اكتشف فيه قلم ماركر في أحد أدرج مكتب والده.
يرفض حموي تصنيفه ضمن أي مدرسة فنية، لأنه لم يعد هناك حدود فاصلة ثابتة بين التيارات وبتنا أمام أسلوب حر للتعبير، حيث انتقل فن الغرافيتي من ارتباطه بالعصابات والجريمة إلى ميدان التعبير ورفض قوى الأمر الواقع.
في العام 2012، شارك حموي مع مجموعة كبيرة من الشبان في مبادرة سكاتش جام لتجميل درج قهوة التل العليا التراثية. وهو انفرد بلوحة غرافيتي خاصة به لمعركة تستخدم الألوان عوضاً عن الرصاص. فمن وجهة نظره، وإن كان الواقع مؤلماً، لا مانع من السعي إلى تجميله.
يمتاز حموي باستخدام مواد كالطبشور. فهو لا يتأخر في الرسم على الجدران الخاصة بزملائه وتحويلها إلى لوحات مؤقتة. ولا يتأخر في الحديث عن القطع الفنية بوصفها جزءاً من الإنسان وبصمة تعبر عن مرحلة من مراحل حياته.
وينطلق حموي في بعض أعماله من خلفية ميتولوجية، ويحب أن يمزج بين أساطير الشعوب في جدارية واحدة. ففي إحدى اللوحات، مزج كائن السانتور الأسطوري اليوناني بطائر الفينيق رمز التجدد والخلود.
Copyright © 2019 artsgulf.com All Rights Reserved.
جميع الحقوق محفوظة لـ ترانا لتقنية المعلومات