لم نكن نعرف جان بيار روك ـ روساي قبل ولوجنا إلى داخل غاليري «أوبرا»، علماً أن أعمال الفنان كانت عُرضت غير مرة، لدى الغاليري عينه في أمكنة أخرى. فصالة العرض تمتلك فروعاً عالمية عديدة، موزعة بين الغرب الأوروبي والشرق الأقصى، أما المعرض «البيروتي» للفنان فيقام للمرة الأولى في العاصمة اللبنانية. من هنا يعتبر معرضه «عمامات وكيمونوس»، بمثابة مناسبة للتعرف إلى أعمال الفنان الفرنسي الجنسية، الذي استطاع أن يصنع لنفسه إسماً، أكان في بلده أم في بلدان أخرى. يعود الأمر، من دون شك، إلى ما نتلمسه من احتراف واضح في نوعية معالجاته التشكيلية، الظاهرة من النظرة الأولى، وقبل أن نغوص، بقدر الإمكان، في العالم الذي شاء روك ـ روساي أن يقدمه لنا. إذ إن الانطباع الأول يشير إلى غلبة المفعول البصري المباشر، وكأن الفنان شاء أن يفرض على المتلقي لحظة من الدهشة، تسبق المعاينة المتأنية والمفصّلة للعمل.
وإن كان من مدلول للحظة المذكورة، فهو أن الأعمال المعروضة كانت صُنعت، ربما، من أجل إرضاء أذواق مختلفة، من حيث علاقة أصحابها بموضوع التشكيل. هذا الحكم لا يشير بالضرورة، في شكل مباشر أو غير مباشر، إلى أن روك ـ روساي كان وضع هذا الهدف نصب عينيه، بقدر تمكنه، عبر أعماله، من الجمع بين بعدين اثنين: المباشرة من جهة، وما تعنيه من استبعاد صعوبة التلقي لمن لا يمتلك ثقافة تشكيلية إلا على نحو نسبي، والعمق وما يمكن أن يعتمل ضمنه من ورائيات ومقاصد، قد لا تكون واضحة من الانطباع الأول، من ناحية أخرى.
لوحات روك ـ روساي، الكبيرة الحجم نسبياً، تتضمن قامات بشرية أنثوية أو ذكرية، مع غلبة للفئة الأولى، في أوضاع مختلفة. هذه الأوضاع، المتراوحة بين الامتداد عمودياً أو أفقياً، أو ما بين الإثنين، لا تتحدد بالفعل وتحتل مكانتها التشكيلية إلا من خلال الزي الذي ترتديه، وطبيعة الشعر أو العمامة التي تغطي الرأس، اللذين يبدوان، (أي الزي والعمامة أو تسريحة الشعر)، وكأنهما بيت القصيد، لا بل هما يحتلان المكانة الأهم في الأعمال، ويتعنون، على أساسهما المعرض.
هذا الزي قد يكون فضفاضاً الى الحدود القصوى التي تسمح بها مساحة القماش، حتى أنه يلامس أطرافها في بعض الأحيان، في حين يصير الرأس صغيراً إلى الحدود القصوى بدوره، نسبة إلى الزي، ويتقلص حجمه في شكل إضافي قياساً إلى الحجم الذي تكتسبه العمامة أو تسريحة الشعر، علماً أن هذه التسريحة لا تتخذ صفة إصطناعية دائماً، بل يبدو أن أمرها متروك لتسريحة نمطية وازنة، أو حرّة ومنفلتة في بعض الأحيان.
كل ما جرى ذكره يشير إلى أن الفنان يمتلك أسلوباً ذاتياً مميزاً، تراه العين من النظرة الأولى، التي ذكرناها في بداية حديثنا، أكان من حيث المقاربة التأليفية الجريئة والحادة، أم من حيث طبيعة اللون. إذ لا يتوانى عن اللجوء إلى تعاكس مقصود بين الحار والبارد، واعتماد الألوان الحارة الصارخة على مساحات واسعة، بحسب ضربات ريشة حرة وعريضة مع ألوان سائلة، أو شبه سائلة، ما يسمح بالتشفيف الذي يظهر من خلاله بعض من قماش اللوحة، كما تظهر، أيضاً، طبيعة الثوب الذي ترتديه القامة البشرية. إلى ذلك اعتمد الفنان استعمال الذهب من أجل تغطية بعض مساحات الخلفية، ما أضفى بريقاً خاصاً على بعض الأعمال، يصب في خدمة الهدف التشكيلي النهائي، الذي شاء أن يقدمه لنا. هذه المداخل كافة تبين لنا، مرة أخرى، قدراً من الجرأة في المعالجة الفنية، المرتكزة، كما يبدو إلى خبرة طويلة وأكيدة في هذا المجال.
بقي أن نشير إلى أن روك ـ روساي، الغربي المولد والنشأة ، يبان لنا، وفي شكل ملموس، شرقي النزعة والهوى. وجوه شخصياته تستمد تعابيرها من بلاد الشرق الأقصى، حاملة غموضاً وأسراراً وحكايات لا تسردها اللوحة ، بل تستتر وراء نظرات أعين لا تبان حدقاتها دائماً، ينتمي أصحابها، كما يبدو، إلى عالم زائل، خيالي ومركّب، تختلط فيه المشاعر البشرية التي تعكسها شخصياته، على تنوعها واختلافها.
يستمر المعرض حتى 1 تشرين الأول في غاليري أوبرا – 94 جادة فوش، بيروت.وفقا لما نشر بصحيفة السفير.
Copyright © 2021 artsgulf.com All Rights Reserved.
جميع الحقوق محفوظة لـ ترانا لتقنية المعلومات