يعتبر فن الوصف بالموسيقى من الفنون التي تتطلب مهارة فائقة في فهم الموسيقى الأدائية واستيعاب العلوم الموسيقية النظرية والتطبيقية والمهارة الأدائية في العزف أو الغناء أي الخبرة الطويلة في التأليف، وإدراك إمكانيات الآلات الموسيقية ومساحتها الصوتية .. والتوافق بين الآلات للحصول على أفضل رنين. وغالباً ما تصنف الموسيقى التشكيلية في سياق هذا المنحى الإبداعي، أعلى وأبلغ درجات التميز في عملية المزج والعناق بين روحية النغم وعوالم اللون: اللوحات إلى عالم المسموع. في عام 1874 أقامت أكاديمية الفنون في سان بطرسبرغ، معرضاً لمجموعة من لوحات الرسام فكتور هارتمان وأعماله المائية، وأيضاً للتصاميم الهندسية وبعض التماثيل، تكريماً له ولفنه. وزار المؤلف الموسيقي الروسي الشهير، موديست موسورسكي، المعرض. ثم قرر تكريم ذكرى صديقه بأسلوبه الخاص، حيث ألهمته بعض اللوحات المعروضة لإنجاز عمل يجمع به بين الفنون التشكيلية وبين لغة الأداء المنفردة المسموعة (لغة الموسيقى). إذ نقل اللوحات إلى العالم المسموع، حيث ألف عمله الشهير (لوحات من المعرض)، الذي بني على أساس عشر لوحات أظهرها بموسيقى معبرة عن لوحات هارتمان ووضعها في إطار موسيقي جميل محكم. وأطلق عليها تسمية متتالية لآلة البيانو. أما التوزيع الأوركسترالي فكان للموسيقي الفرنسي موريس رافيل في عام 1922، وقدمت في صورتها الأوركسترالية الجديدة في باريس عام 1923.
هارمونية خشنة
استخدم موسورسكي العناصر الموسيقية في التعبير عن مضمون اللوحات العشر المختلفة بعضها عن بعض، معتمداً على ثيمة ما أو مقطع موسيقي يربط بين هذه اللوحات. وموسورسكي، المولود عام 1839 في كاريفو وتوفي في 1881 في سان بطرسبرغ، كان مؤلفاً واسع الخيال، وهو ما زاد نتاجه في خصوص تلك اللوحات سمة تفرد وثراء. إذ أنه أحد الخمسة الكبار في عالم الموسيقى القومية الروسية، درس الموسيقى لوحده واكتسب خبرة كبيرة في النظريات الموسيقية، وحلل الكثير من أعمال عباقرة الموسيقى، وكان مؤمناً بالإلهام الفطري لدى الموسيقي. لذلك ظل حراً غير متقيد بالقوالب والصيغ الموسيقية التقليدية حيث إنه امتلك العناصر الرئيسة والأدوات الفنية لبناء أسس الموسيقى الروسية الحديثة. فكانت موسيقاه مليئة بالصور التعبيرية، ما جعله قريباً من فن الرسم، سوى أنه رسم بالصوت والنغم، كان رساماً موسيقياً ذا ألوان قوية وهارمونية خشنة مع ظهور واضح للإيقاع المتعارف عليه في الأغاني الشعبية الروسية، إذ ظهرت قوميته بوضوح في المتتالية التصويرية (لوحات من المعرض).
والمتتالية بشكل عام: (لوحات من المعرض)، قالب موسيقي يتكون من رقصات شعبية عدة مختلفة في السرعة والإيقاعات تعزف الواحدة تلو الأخرى، حيث يصور المؤلف موضوعاً معيناً وتحمل كل مقطوعة عنواناً خاصاً بها، مثل متتالية لوحات من المعرض لموسورسكي.
النزهة
في بداية الرحلة، سجل موسورسكي انطباعاته وأحاسيسه أثناء تجمع الحضور أمام قاعة العرض وقبل الافتتاح يتذكر بها صديقه الرسام بألم وحزن على فراقه. فيبدأ بنفير معبر من آلة التومبيت. ثم تتبعها كل آلات النفخ النحاسية معبرة عن حزن المؤلف لفقدان صديقه. ثم يشرع في تجربته مع اللوحة الأولى.
ترجمات لحنية
قدم موسورسكي اللوحات، في حركات وألحان متنوعة، ويتمثل ذلك بالآتي:
(القزم)
القزم: The Gnomus، تعويذة تعلق على شجرة عيد الميلاد، وتمثل قزماً بشع المظهر يسير بخطوات غير متوازنة: يسير خطوة ثم يسقط على الأرض، ثم يعود ويسير مرة أخرى. ووضح موسورسكي الحركة الموسيقية باستخدام النغمات الطويلة لآلات النفخ للتعبير عن حركة القزم، وبمرافقة الآلات الوترية لتعزف بطريقة النقر المتقطعة للتعبير عن طريقة مشي القزم.
(القلعة القديمة)
تمثل لوحة (القلعة القديمة): The old Castle -Troubadour، صورة لمغنٍ من التروبادور يعزف على آلة اللوت (العود) أمام قلعة قديمة من العصور الوسطى، وبنيت هذه اللوحة على فكرتين: الأولى لحن تقدمه آلة الباصون بحساسية ورقة ثم الوتريات وجميع الأوركسترا. أما الثانية فتؤديها آلة الساكسفون. وبعد نهاية هذه اللوحة يعيد المؤلف عرض مقطع النزهة من قبل الأوركسترا تمهيداً لظهور اللوحة الثالثة.
(حديقة التيوليري)
وفي حديقة (التيوليري): Tuileries، نتبين أنه ترصد لنا اللوحة صوراً للأطفال يلعبون وهم في غاية الفرح والسعادة، كما نرى المربيات وهن يلاحقن الأطفال في الحديقة التي تقع في منتصف قصر التيوليري التاريخي الذي كان ملتقى للملوك والأمراء والنبلاء. وعبر عن ذلك موسورسكي بعشوائية الأداء.. مصوراً طريقة لعب الأطفال غير المنتظمة والركض. إذ استخدم المؤلف التعبيرات الموسيقية كافة: من التصاعد في الشدة والتباطؤ ومن القوي والخافت.
عربة بولندية يجرها ثور: Bydło بيدلو
ينتقل موسورسكي إلى اللوحة الرابعة: عربة بولندية يجرها ثور: Bydło بيدلو، دون أي فاصل بينها وبين اللوحة السابقة، كأنه لا توجد مسافة فاصلة بين اللوحتين. ويصف لنا المؤلف حركة سير العربة وهي قادمة من بعيد ثم يتدرج في استخدام القوة لوصول هذه العربة التي تمتاز بضخامة العجلات الخشبية تغير من سلاسة مسير العجلات، ويظهرها المؤلف في إيقاع اللوحة أثناء المسير. وهنا نرى كم كان موسورسكي موفقاً في ترجمة البعد الثالث (المنظور) موسيقياً، حيث تحرك في إيقاعه بحركة تدريجية متنامية نحو الوضوح ليصدق في تعبيره عن البعد والقرب، معتمداً على اللحن الشعبي الروسي. وترافقه الأوركسترا بقوة حيث تتوافق الحركة في اللحن مع الذي تؤديه آلة التوبا. وتنتهي المقطوعة بتلاشي الموسيقى مستخدماً معها أسلوب التناقص الصوتي، وكأن العربة تبتعد، ومعتمداً على الآلة ذاتها في الانتهاء من هذه اللوحة.
(الكتاكيت الثلاثة)
تبدأ لوحة /باليه (الكتاكيت الثلاثة): Ballet of the Unhatched Chicks، بلحن النزهة أو التجوال ثم ننتقل إلى تمثل الصورة للوحة لثلاثة صيصان عند خروجها من البيض. وعبر موسورسكي عن عدد الكتاكيت بثلاث صرخات. وبعد الصرخة الثانية يصور لنا موسورسكي طريقة سير الكتاكيت غير المنتظمة، مستخدماً آلة فلوت وآلات النفخ الخشبية. كما استخدمت الوتريات أسلوب النقر (Pizzicato). وتنتهي اللوحة بالصرخة الثالثة.
الغني والفقير
تبدأ لوحة (الغني والفقير صمويل وجولدنبيرغ): Samuel and Goldenberg، مباشرة من دون لحن التجوال. وهي تحكي عن يهوديين بولنديين، الأول جولدنبيرغ ثري جداً ويحمل ساعة ذهبية وخاتماً مع جوهرة كريمة براقة. وتعبر الآلات الوترية وآلات النفخ الخشبية في الأوركسترا عن ضخامة الشخصية وفخامتها. أما الثاني صمويل، فهو معدم ضعيف البنية.. مثير للشفقة. عبر عنه موسورسكي باستخدام آلة الترومبيت المكتومة أي استخدم جهاز الكاتم للآلة، ثم يبدأ الحوار بين المقطع الموسيقي للغني والمقطع الموسيقي للفقير فنحن نسمع إلحاح صمويل بطلب المال من الغني، ثم نسمع كيف يرفض جولدنبيرغ بشدة طلبه ثم يطرده بغضب.
(سوق ليموج)
تحكي لوحة (سوق ليموج): The Market at Limoges، عن سوق كبير في باريس مليء بضجيج الباعة وصراخهم والصراعات التي تنشب بين أفراد الطبقة الكادحة. ووضح الصورة تلك موسورسكي في الإيقاعات القوية والألحان المتدفقة التي تحمل روحاً شعبية.
(زيارة المقابر)
وفي (زيارة المقابر): The Catacombs، يترجم موسورسكي هذه اللوحة القاتمة بقطعة موسيقية دينية الطابع، ترمز إلى جلال الموت فتؤدي آلات النفخ الخشبية تالفات هارمونية بطيئة تعبيراً عن الألوان القاتمة المستخدمة في لوحة هارتمان، الذي رسم هذه اللوحة بعد زيارته للمقابر الرومانية القديمة، التي كانت عبارة عن غرف تحت الأرض تسمى سراديب الموت الباريسية. وفقا لما نشر بصحيفة البيان
Copyright © 2021 artsgulf.com All Rights Reserved.
جميع الحقوق محفوظة لـ ترانا لتقنية المعلومات