الخطّ هويّة الشعوب، مبتدأ الحضارة، وتعبير عن حياةٍ كامنة في الحرف، حياةٍ لا يشوبها التزوير والتزييف.
في لوحاته يحضر الإنسان وتغيب التشوّهات الّتي اعترت مسيرته التاريخيّة، الإنسان الذي يعمل ويجتهد ويبدع ليلتقي بذاته وبالآخر دون أن يفقد هويته بإحداثياتها المختلفة، وبجغرافيّة تحتفل بالزمان والمكان على حدّ سواء.
الخطاط الكويتي «فريد عبدال» في حوار لـ»القدس العربي» حول تجربته الفنيّة ورؤاه الفكريّة.
* متأخرة جاءت البداية، لكنّها جاءت ناضجة واعية تماماً، ماهي العوامل الّتي ساهمت في تشكيل نقطة الانطلاق ؟
*أنحدر من عائلة تعشق الأدب العربي وتحتفل به. والدي كان تاجراً، لكنّه عاشق للفن والأدب. كنت ألحظ احترامه للخط في جلوسه لكتابة المراسلات التجارية والشخصيّة أيضاً. يمسك القلم ويخطّ باحترام شديد محيطاً القلم بهالةٍ من القداسة، فضلاً عن أنّه كان يعشق جمع المخطوطات، وكثيراً ما يعرضها ثمّ يخفيها خوفاً وحرصاً عليها، وأدرك جيّداً أنّ لاهتمامه هذا أثراً كبيراً في انحيازي اللاوعي بدايةً إلى الخط، إضافة إلى اهتمام معلمي «راتب القطامي» بعد أن لاحظ حبي للرسم في أولى سنوات الدراسة، ولاسيّما في الأساسيات الّتي كنا ندرسها كقواعد خطّ الرقعة والنسخ.
* لكنّ البداية كانت في الولايات المتحدة الأمريكية.
*نعم، كنت أدرس الهندسة المعمارية هناك، ويبدو أنّ للحنين دوراً جميلاً في تفسير ما حدث، عندما أخذني إلى بلادنا بين صوت فيروز والذكريات الّتي كانت تتوهّج في مخيّلتي . طلبت من زوجتي قبل خروجها إلى العمل أن تحضر لي أوراقاً وحبراً. كان هذا في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم، وبلاوعيٍ مشوبٍ بهذا الحنين بدأت دون أن أمتلك قبل هذه اللحظة المتأخرة القرار بأن أكون خطاطاً، كما أنّ عشقي للثقافة الشرقيّة واهتمامي بها أسهم هناك في رفد اهتمامي، فقد كان عندي أكثر من مدرسٍ شغوفٍ بالخط: أحدهم صيني وهو مبتكر لخطّ انكليزي، وآخر ياباني كان خطاطاً وقد أشرف على تعليمي الخط كما درّبني على فن «الأيكيدو» القتالي. بالإضافة إلى كتابٍ كانت قد أهدتني إياه الشيخة «ألطاف سالم العلي» عن المسلمين الصينيين وعن كتابتهم العربية بالريشة لا بالقلم. كلّ هذه العوامل كانت تدفعني إلى البداية عندما أحضرت زوجتي ما طلبت . شعرت أنني أعيد تشكيل الخط بطريقة مختلفة !
* ما أثر دراستك للعمارة في لوحاتك ؟
*اهتمامي بالرسم كبيرٌ جداً، وساهمت دراستي في رفد موهبتي وإضاءتها. الحرف هو في حقيقة الأمر شكلٌ يولد بنسبٍ محدّدة، والخط العربي الكلاسيكي مبنيُّ على نظرية «النسب الفاضلة»، وهي نظرية قديمة لها آثارها في الحضارات البابلية والسومرية والفرعونية الأولى، وفي اليونانية والرومانية أيضاً فتحت الباب على مصراعيه فظهرت الجماليات الرياضية والهندسية، كانوا يقيسون النسب الفاضلة في السمكة والحصان وهذا دليل على هوس الإنسان بالرشاقة والنسب الجمالية الموجودة في الخَلق. ابن مقلة في العصر العباسي رشّق الخط، واعتمد على هذه النظرية الّتي نعرفها وإنْ لم نتعلّمها. في جماليات الخط العربي الذي تجرّد من الخط الهيروغليفي والخط التدمري والمسندي الأوّل، وهذا ما أوجد الخط الكوفي الأوّل، ثمّ تنسّق بنظرية النسب الفاضلة. أعتقد أنّ هذا التشكّل كان من أجمل الثورات الإنسانية.
* هل هذا التشكّل نابعٌ من انحياز في الحضارة العربيّة إلى التجريد ؟
*لا ..أنا أتكلّم عن الشرق الأوسط في بلاد الشام ومصر وبلاد الرافدين، الكتابة الأولى في الانطلاق من الصورة إلى الرمز البصري إلى الحرف المجرّد. والعرب انطلقوا من الخطوط في أصلها الصوري إلى المجردات، وازدهر الخط في العصر العباسي عبر نظريات ومنظومات هندسيّة. كانت ثورة فنيّة رائعة، فالديواني يعدّ ثورة على الكوفي والثلث قفزة كبيرة فوق النسخ، إضافة إلى خطوط لم تُشتهر لعدم اهتمام السلاطين فيها مثل التكروني والأندلسي وغيرهما. لكنّ الخطوط توقفت مع نهاية العصر العثماني والمقابل لها القاجاري والصفوي، وكانت بداية الجمود والانحدار. للأسف، لقد توقف الخط كفن منذ أكثر من 300 سنة، وأصبح حرفة ومادةً لكتابة الإعلانات ومقدّس جامدٍ لا يقبل التأويل. هو توقّفٌ تام في مجالات الحضارة العربية كافّة على الرغم من وجود محاولات كلاسيكية جميلة، لكنّه توقف وتحوّل من حضارةٍ منتجة للفنّ إلى حضارةٍ تابعة.
* تعلمت فنّ «الأيكيدو» القتالي، ما علاقة هذا الفن بالخط ؟!
* العلاقة وثيقة في أعمالي، وهو فن حديث قياساً بغيره من الفنون القتالية، نشأ في نهاية القرن التاسع عشر أستاذه كان فيلسوفاً وبطلاً وأراد أن يخرج بالقتال من وحشيته إلى إنسانيته المحمّلة بالقيم السامية، وكانت محاولات لتقليد حركة السيف ورشاقته في القتال، وتوظيف تلك الحركة والانسيابية في الخط . في النهاية، القتال هو فنّ وليس علماً…وأعتقد أنّ جزءاً من هزائم الدول المتخلّفة سببه إهمال هذا الجانب؛ لأنّ العسكر أصبحوا متبلّدين، ويفتقدون لتك الحساسيّة، فالمقاتل يجب أنّ يتحلّى بحسّ الفنان، ويمتلك ذلك الإحساس تجاه ما يدافع عنه ويقاتل لأجله، كيف ندافع عن حضارة لا نفهمهما ولا نثّمن وجودها ؟
* تقول: «الحرف أضحى مغامرة في عصر العولمة» كيف يمكن للحرف أن يشارك في هذه المغامرة ؟
*يجب أن تموت لتبعثَ من جديد، أن تصل إلى الموت لتبعثّ من جديد، ومع ما يحدث في العالم من ثوراتٍ وارتدادات عنيفة إلى الأصولية، والهجمة الإعلامية الشرسة الّتي تتعرض لها الحضارة العربية وسوى ذلك من محاولات لانتهاك تلك الحضارة. كلّ هذا يحيلك للدفاع عن هويّتك ووجودك الحضاري، لقد أصبح العربي وجهاً لكل ماهو بشع ومتخلف، وللأسف فإنّ ردود الأفعال كانت تتجسّد بأصولية ونكوص شديد، وهذا طبيعي تجاه ما يحدث، لكنّني أردتُ أن أعيد تعريف الحرف دون أن يفقد هويّته . نعم ثرت على القلم وعلى هندسة النسب الفاضلة، منطلقاً من رؤيتي الخاصة ومن تعريفي إلى أنّ النقطة هي مولد الحرف لا مجموعة النقط، ولهذا علاقة بقيمي الجمالية والفكريّة. نعم، نفرت إلى ماهو أعمق، إلى الحرف عندما طال التزوير والجمود الكلمة ذاتها، فالحرف لا يمكن لأحدٍ أن يدنّسه، عدت إليه كمن يعود إلى المستوى الذري. وهمّي هو أن أوثّق وجودي وحقيقتي بعيداً عن الهويات والأيديولوجيات المزيفة.
* هل من الممكن للحرف أن يكون تجديداً لهويّة الشعوب ؟
*الفن نتاجٌ إنسانيّ لا يمكن تقييده بقوالب محدّدة غير قابلة للتطور، والفن العربي يستحق المغامرة والتجديد والإفادة من الحضارة الإنسانية جمعاء في مجالاتها كافّة. ما كنت أفعله في عملي كمهندس معماري هو أن أحافظ على ارتباط البناء بالتعبير الحضاري العربي، وللأسف فنحن لا نهتم بذلك، وقد يكون هذا طبيعياً مع انعدام الاهتمام بالموسيقى والفنون البدنية والثقافة بشكل عام. هذا أمر خطير عندما تتسابق دولنا لتجنيد جيوش من الموظفين فاقدي تلك المهارات وذلك الارتباط الحقيقي بحضارتهم والمنجز الإنساني العالمي.
* ما الفكرة من استخدام الحبر الصيني وطريقة الكتابة العمودية ؟
*لهذا علاقة باللاوعي أكثر من التخطيط المسبق، في بحثي الجاد عن الليونة والانسيابية، رحت أبحث عن الريشة الّتي أحضرت حبرها معها. لم أرغب بالقلم اليابس، بل أردت الريشة المتخمة بالحبر الصيني أو الهندي، والذي يتكون من أحجار الكربون كما يفعل الصينيون الذين يزيدون عليه الكافور ويعطرونه ويطهّرونه… في النهاية، أردت تغيير قواعد اللعبة، وفي الأمر رسالة مفادها أنّ الخط العربي قادرٌ على التعبير سواء بالريشة أو القلم. لا يوجد في ثقافتنا استخدام للريشة وعندما استخدمتها كانت محاولة للتأكيد عن أصالتها كأداة في التعامل مع الخط العربي. وكنت في رهان على أنّ الريشة ستتكلم اللغة العربية . جوهر الجمال ليس الأداة، إنمّا هي مساعد. نحن لا نرسم بأيدينا بل بأعيننا الداخلية.
* في لوحة «كشفت عن ساقيها» انكشاف وإخفاء، ما الغاية من وراء هذه المزاوجة ؟
*هنالك من يكفّر الآخر عبر تفكيك وتمزيق الأنساق اللغوية، ونزعها من سياقها في النّص المقدّس؛ لذلك أردت أن أستخدم الأسلوب ذاته، فأخرجت الصور الجمالية في القرآن الكريم مستخدماً مفهوم نزع السياق، وهي لعبة الإبراز والتسوية، فهنالك من يختار ما يريد ويغلّفه بالوعيد والتهديد والتكفير، ولا يخطر بباله أنّ القرآن الكريم كتاب ذو أبعادٍ جمالية وأدبيّة لا يمكن تجاهلها.
وهذا ما جعلني أحاول التركيز عليها بدلاً من دعوات التكفير والزندقة، وأنحاز إلى تلك الصور الجمالية المغرقة بالدفء والحياة، مثل «فتبسّم ضاحكاً»، «همّت به وهمَّ بها». هي دعوة لكشف الرداء التقليدي وعباءة الأحكام الجاهزة، هي دعوة للانتباه إلى الكشف بحدّ ذاته على الرغم من محاولة تغطيتها !
* ما الفكرة من طغيان اللون الأحمر في مجموعتك التائية ؟
*الأحمر لون متعدد الرمزية، فهو رمز للحب وللجسد وإشارة تحيل إلى دم القربان ودم الشهيد الطاهر، كما يمكن أن يكون إشارة تحيلُ إلى الدم الفاسد والمدنّس كدم الطمث . كانت شعائر الحج وفكرة الافتداء الإلهي وراء هذه المجموعة «تهاليل» و»تسابيح» و»تهادوا» و»تحابوا».
* أثارت «اللوحة المرآتية» ضجةً كبيرةً بانفتاحها على دلالات كثيرة ما هي الرسالة الّتي تحملها ؟
*هي رسالة واضحة لأولئك المهووسين بالتطابق؛ نحن لسنا مرايا متطابقة، حتى وجوهنا ليست متطابقة، بل هي أنصاف متكاملة . مجتمعاتنا مهووسة بالتطابق لا بالتكامل، من يقول أنّ جناحي الفراشة متطابقان ؟
*مع الجمود الفكري، صار التطابق ميزة، ولكننا في النهاية لانتطابق بل نتكامل. هي محاولة لاقتحام حالة الجمود هذه، لا أنكر أنّ التطابق مهمٌ، لكنّ التكامل والتباين هو الأهم.
*هنالك من يرى أنّ للخطّ شروطاً فقهية تجاوزها «فريد عبدال»، مارأيك ؟
*هي ليست شروطاً، بل هي نظرية النسب الفاضلة، وهنالك من يعتقد أنّ هذه النظرية ملك للخطّ العربي، والحقيقة أنّها أقدم من ذلك بكثير، وهي نظرية جمالية لكلّ مافي الحياة ..، وهنالك فرقُ شاسعٌ بين احترام تلك النظرية والالتزام بها وتجاهلها تماماً، كما يحدث مع خطاطي الإعلانات الذين لا يتذوقون الفنّ ولا يفهمون النظريات.
* إلى أيّة درجة يمكن للتقنية أن تخدم الخط ؟
*الكمبيوتر أداةٌ في النهاية مثل الريشة أو القلم، وهو أداة إنتاج لا جوهر إنتاج، في النهاية الكمبيوتر يوفّر الذكاء الصناعي في إنتاج كمياتٍ هائلةٍ، لكنّه لايوفّر البعد العاطفي والوجداني ، ومازال الجانب الحدسي والإلهامي بعيداً عن الآلة. علم الخط من العلوم الّتي تقرأ حالة المعبّر، وهذا ما تعتمد عليه الأبحاث الجنائية في قراءة رسائل المجرمين والمنتحرين، وهذا مايفسّر امتناع الملوك قديماً عن إرسال الرسائل بخطّ أيديهم، كي لا يحلل أعداؤهم شخصياتهم عبر خطوطهم. وفقا لما نشر بصحيفة القدس
Copyright © 2021 artsgulf.com All Rights Reserved.
جميع الحقوق محفوظة لـ ترانا لتقنية المعلومات